مِنْ أَيِّ عَهدٍ في القُرَى تتَدَفَّقُ … وبأَيِّ كَفٍّ في المدائن تُغْدِقُ
ومن السماءِ نزلتَ أَم فُجِّرتَ من … علْيا الجِنان جَداوِلاً تتَرقرقُ
وبأَيِّ عَيْنٍ, أَم بأَيَّة مُزْنَةٍ … أَم أَيِّ طُوفانٍ تفيض وتَفْهَقُ
وبأَىِّ نَوْلٍ أَنتَ ناسجُ بُرْدَةٍ … للضفَّتيْن, جَديدُها لا يَخلَقُ
تَسْوَدُّ دِيباجًا إِذا فارقتها … فإِذا حضرتَ اخْضَوْضَرَ الإِسْتَبْرَقُ
في كلِّ آونةٍ تُبدِّل صِبغةً … عجبًا, وأَنت الصابغُ المُتَأَنِّقُ
أَتَت الدهورُ عليكَ, مَهْدُكَ مُتْرَعٌ … وحِياضُكَ الشُّرق الشهيَّةُ دُفَّقُ
تَسْقِي وتُطْعِمُ, لا إِناؤكَ ضائِقٌ … بالواردين, ولا خوانُك يَنفُقُ
والماءُ تَسْكُبُه فيُسْبَكُ عَسْجَدًا … والأَرضُ تُغْرِقها فيحيا المُغْرَقُ
تُعي مَنابِعُك العقولَ, ويستوي … مُتخبِّطٌ في علمِها ومُحقِّقُ
أَخلَقْتَ راووقَ الدهورِ, ولم تزل … بكَ حَمْأَةٌ كالمسك, لا تَتروَّقُ
حمراءُ في الأَحواض, إِلاّ أَنها … بيضاءُ في عُنُق الثرى تَتأَلَّقُ
دِينُ الأَوائِل فيك دِينُ مُروءَةٍ … لِمَ لا يُؤَلَّه مَنْ يَقُوتُ ويَرزُقُ
لو أَن مخلوقًا يُؤَلَّه لم تكن … لِسواكَ مَرْتبةُ الأُلوهَةِ تَخْلُق
جعلوا الهوى لك والوَقارَ عبادةً … إِنَّ العبادةَ خَشيةٌ وتَعلُّقُ
دانوا ببحرٍ بالمكارِم زاخرٍ … عَذْبِ المشارعِ, مَدُّهُ لا يُلْحَقُ
مُتقيِّد بعهودِه ووُعودِه … يَجري على سَنَنِ الوفاءِ ويَصدُقُ
يَتقبَّلُ الوادي الحياةَ كريمةً … من راحَتَيْكَ عَمِيمةً تتدفَّقُ
متقلِّب الجنبيْن في نَعْمائِهِ … يَعْرَى ويُصْبَغُ في نَداك فيُورِقُ
فيبيتُ خِصْبًا في ثَراه ونِعْمة … ويعُمُّه ماءُ الحياةِ الموسِقُ
وإِليك – بَعْدَ اللهِ – يَرجِع تحته … ما جَفَّ, أَو ما مات, أَو ما يَنْفُقُ
أَين الفراعنةُ الأُلى استذرى بهم … (عيسى), و(يوسف), و(الكَلِيمُ) المصْعَقُ
المُورِدونَ الناسَ مَنْهَلَ حكمةٍ … أَفْضَى إِليه الأَنبياءُ ليَستقوا
الرافعون إِلى الضحى آباءَهم … فالشمسُ أَصلُهمُ الوَضِيءُ المُعْرِقُ
وكأَنما بين البِلى وقبورِهم … عهدٌ على أَنْ لا مِساسَ, ومَوْثِقُ
فحجابُهم تحت الثرى من هَيْبَةٍ … كحجابهم فوق الثرى لا يُخرَقُ
بلغوا الحقيقةَ مِنْ حياة علمُها … حُجُبٌ مُكَثَّفَةٌ, وسِرٌّ مُغلَقُ
وتبيَّنوا معنى الوجودِ, فلم يَرَوْا … دونَ الخلودِ سعادةً تَتحقَّقُ
يَبنون للدنيا كما تَبنِي لهم … خِرَبًا, غرابُ البَيْن فيها يَنْعَقُ
فقصورُهم; كُوخٌ, وبيتُ بَداوةٍ … وقبورُهم; صرْحٌ أَشَمُّ, وجَوْسَقُ
رفعوا لها مِنْ جَنْدَلٍ وصفائحٍ … عَمَدًا, فكانت حائطًا لا يُنْتَقُ
تتشايعُ الدَّاران فيه: فما بدا … دُنْيا, وما لم يَبْدُ أُخرى تَصْدُقُ
للموتِ سِرٌّ تحتَه, وجِدارُه … سُورٌ على السرِّ الخفيِّ, وخَنْدَقُ
وكأَنَّ منزلهم بأَعماقِ الثرى … بين المحلَّةِ والمحلَّةِ” فُنْدُقُ
مَوْفورةٌ تحت الثرى أَزْوَادُهم … رَحْب بهم بين الكهوف المُطْبِقُ
ولِمَنْ هياكلُ قد علا الباني بها … بين الثريَّا والثَّرى تتنَسَّقُ
منها المشيَّدُ كالبروجِ, وبعضُها … كالطَّوْدِ مُضطَّجِعٌ أَشَمُّ مُنَطَّقُ
جُدُدٌ كأَوّلِ عهدها, وحِيالَها … تتقادَمُ الأَرضُ الفضاءُ وتَعْتُقُ
مِنْ كلِّ ثقْلٍ كاهلُ الدُّنيا به … تَعِبٌ, ووَجْهُ الأَرضِ عنه ضَيِّقُ
عال على باع البِلى, لا يَهتدِي … ما يَعتلِي منه وما يَتسلَّقُ
مُتمكِّنٌ كالطودِ أَصلاً في الثرى … والفرعُ في حَرمِ السماءِ مُحلِّقُ
هي من بناءِ الظلمِ, إِلا أَنه … يَبيَضُّ وجهُ الظلمِ منه ويُشْرِقُ
لم يُرْهِق الأُمَمَ الملوكُ بمثلها … فخرًا لهم يَبْقَى وذكرًا يَعْبَقُ
فُتِنَتْ بشطَّيْكَ العِبَادُ, فلم يزل … قاصٍ يَحُجُّهُمَا, ودانٍ يَرْمُقُ
وتضوَّعَتْ مِسْكَ الدُّهورِ, كأَنما … في كلِّ ناحية بَخورٌ يُحْرَقُ
وتقابلتْ فيها على السُّرُرِ الدُّمَى … مُسْتَرْدِيات الذلّ لا تَتَفَنَّقُ
عَطَلتْ, وكان مكانُهنّ من العُلى … (بِلْقِيسُ) تَقْبِسُ من حلاهُ وتَسْرقُ
وعَلا عليهن الترابُ, ولم يكن … يَزْكُو بِهنّ سوى العبير ويَلبَقُ
حُجُراتُها مَوْطوءَةٌ, وستورُها … مَهتوكةٌ, بيد البِلى تَتخرّقُ
أَوْدَى بزينتها الزمانُ وحَلْيها … والحسنُ باقٍ والشبابُ الرَّيِّقُ
لو رُدَّ فِرعونُ الغداةَ; لراعه … أَنّ الغَرانيق العُلَى لا تَنطقُ
خلع الزمانُ على الورى أَيامَه … فإِذا الضُّحى لكَ حِصَّةٌ والرَّوْنَقُ
لكَ من مواسمِه ومن أَعيادِه … ما تَحْسِرُ الأَبصارُ فيه وتَبْرَقُ
لا (الفرسُ) أُوتوا مثَله يومًا, ولا … (بغدادُ) في ظلِّ (الرشيد) و(جِلَّق
فَتْحُ الممالك, أَو قيامُ (العِجْلِ), أَو … يومُ القبور, أَو الزفافُ المُونِقُ
كم موكبٍ تَتخَايلُ الدنيا به يُجْلَى … كما تُجْلَى النجومُ ويُنْسقُ
فرعونُ فيه من الكتائبِ مُقبِلٌ … كالسُّحْبِ, قَرْنُ الشمس منهامُفتِقُ
تَعْنو لعزَّتِه الوجوه, ووجههُ … للشمسِ في الآفاقِ عانٍ مُطرِقُ
آبتْ من السفرِ البعيدِ جنودُه … وأَتتْه بالفتحِ السعيدِ الفَيْلَقُ
ومَشى الملوكُ مُصفَّدِين, خدودُهم … نعلٌ لفرعونَ العظِيم ونُمْرُقُ